متى يكون القرض حلال؟ ضوابط الشريعة للتمويل والابتعاد عن الربا
في ظل تعقيد التعاملات المالية وتزايد الاعتماد على البنوك للحصول على التمويل، يتساءل العديد من الناس عن الشروط التي تجعل الاقتراض من البنك يتماشى مع الشريعة الإسلامية. يعتبر القرض المصرفي بالنسبة للبعض وسيلة لتلبية الاحتياجات الملحة وتجاوز الأزمات الاقتصادية، بينما يرى آخرون أن الاعتماد على القروض مع الفوائد يشكل تحدياً شرعياً يحتاج إلى الوقوف عليه بعناية. هنا يأتي دور الشريعة الإسلامية لتحديد الحدود والضوابط التي يجب الالتزام بها لتجنب الوقوع في الربا المحرم، والذي يعد من الأمور التي شدد الإسلام على تجنبها، حيث اعتبره الله سبحانه وتعالى مفسدة عظيمة للأفراد والمجتمعات.
![]() |
متى يصبح القرض حلال |
في هذا المقال، سنتناول مفهوم القرض الحلال وما يبيحه الشرع من حالات استثنائية، مثل حالات الضرورة القصوى التي لا يجد الشخص فيها بديلاً آخر لتلبية احتياجاته الأساسية، كالعلاج الطارئ أو الحاجة الملحّة للطعام والمأوى. كما سنتطرق إلى الشروط التي تضعها الشريعة الإسلامية على من يضطر لأخذ القرض بربا، وأهمية البحث عن حلول بديلة قبل اتخاذ هذا الخيار، كالقروض الحسنة أو المساعدات من الأهل والأصدقاء.
الموقف الشرعي من القروض الربوية: تحريم واضح وصريح
دائماً ما يتساءل الناس: متى يصبح أخذ القرض من البنك حلالاً؟ هل الضرورة هي الشرط الوحيد لجوازه؟ الإجابة المختصرة هي أن القروض التي تشمل فوائد تعتبر من أوضح صور الربا (ربا النسيئة)، والربا من الأمور التي حرمها الله عز وجل تحريماً واضحاً، بل وهدد من يتعامل به بالحرب من الله ورسوله، حيث قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون" (البقرة: 278-279).
أخذ القرض بفائدة يجعل الشخص يدفع أكثر مما اقترضه؛ مثلاً، إن اقترض شخص مبلغ 100 جنيه، فعليه أن يسدده بمبلغ 150 جنيهاً. وهذا الفرق (الـ 50 جنيهاً) هو الربا المحرم. هذا التحريم يهدف لحماية الفقراء والمحتاجين من استغلال الأغنياء، ولضمان أن يتم الكسب بناءً على الجهد والمخاطرة المشروعة وليس على مجرد المال.
الضرورة القصوى: متى "تبيح المحظور" في القرض؟
الشريعة الإسلامية شريعة رحمة، والفقهاء وضعوا قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات". لكن تطبيق هذه القاعدة على القروض الربوية له شروط بالغة الدقة. لا يجوز للمسلم الدخول في قروض بفائدة إلا في حالات ضيقة جداً من **الضرورة القصوى**، وهي التي تهدد حياة الإنسان أو بقاءه:
- الحفاظ على النفس والحياة (الضرورة المادية): إذا كان الشخص معرضاً للهلاك أو الضرر البالغ الذي لا يمكن دفعه إلا بالقرض. مثل:
- الحالات الصحية الطارئة: إذا احتاج الشخص إلى عملية جراحية عاجلة لأحد أفراد عائلته، وكان غير قادر على تغطية التكاليف، ولم يجد سبيلا للعلاج المجاني أو المساعدة.
- الخوف من الجوع أو فقدان المأوى: إذا كان الشخص سيموت جوعاً هو ومن يعول، أو سيفقد المأوى الضروري للحياة (في حالة عدم وجود بديل للإيجار أو الشراء).
- دفع الضرر القانوني القاهر: إذا كان الشخص معرضاً للسجن أو للعقوبة بسبب دين مستحق، ولم يتمكن من تسوية الدين أو إيجاد بدائل لدفعه.
في مثل هذه الحالات النادرة، يدخل الشخص ضمن قوله تعالى: "فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه". ومع ذلك، يجب على المضطر أن يسعى لتقليل المبلغ المقترض لأقصى حد ممكن، وأن يستفتي عالماً موثوقاً قبل الإقدام على هذه الخطوة.
الفرق بين الضرورة والحاجة: ضابط شرعي مهم
يجب التفرقة بين "الضرورة" التي تبيح المحظور، و"الحاجة" التي لا تبيحه:
- الضرورة: هي ما يتوقف عليه بقاء الإنسان وحياته (الأكل، الشرب، المأوى، العلاج المنقذ للحياة).
- الحاجة: هي ما يحسن الحياة ويكملها (شراء سيارة جديدة للرفاهية، تجديد الأثاث، السفر).
البدائل المشروعة للقروض الربوية: الحل في التمويل الإسلامي
الحكمة من تحريم الربا هي توجيه الناس للتعامل بطرق فيها عدل ومشاركة للمخاطر. البدائل المتاحة للقروض الربوية هي:
- 1. القروض الحسنة: هذه القروض تقدم بدون فوائد، وتسدد بنفس المبلغ المقترض. القرض الحسن يعد من الأعمال الخيرية التي يشجع عليها الإسلام لمساعدة المحتاجين بدون استغلال.
- 2. صناديق الزكاة والصدقات: بعض الجمعيات الخيرية والمؤسسات الإسلامية تقدم مساعدات مالية أو قروض حسنة (أو شبه حسنة) بدون فوائد لمن يمر بضائقة.
- 3. التعاون مع الأقارب والأصدقاء: طلب المساعدة من الدائرة المقربة هو أولى الخطوات، وقد يكون لديهم القدرة على مساعدة الشخص في محنته.
- 4. البنوك الإسلامية وآليات التمويل الحلال: تختلف البنوك الإسلامية عن التقليدية، حيث تقدم معاملات مالية خالية من الفوائد الربوية، وتعتمد على عقود قائمة على المشاركة في الربح والخسارة أو البيع والشراء.
شرح مبسط لأهم آليات التمويل الإسلامي (بدائل القرض الربوي):
- المرابحة للآمر بالشراء (التمويل الشائع): البنك لا يعطيك مالاً لتقترض، بل يشتري السلعة (كالمنزل أو السيارة) التي تريدها أولاً ويملكها، ثم يبيعها لك بسعر أعلى متفق عليه يدفع على أقساط محددة. الزيادة هنا هي ثمن البيع وليست فائدة على قرض.
- الإجارة المنتهية بالتمليك: البنك يشتري السلعة ويؤجرها لك لمدة محددة (إجارة)، وفي نهاية المدة تنتقل ملكية السلعة إليك بدون مقابل إضافي (تمليك). الزيادة هنا هي مقابل الإيجار، وليست فائدة على مال مقترض.
- المشاركة والمضاربة: يتم استخدامها لتمويل المشاريع. البنك يشارك برأس المال في مشروع معين (مشاركة)، أو يقدم المال لتشغيله (مضاربة)، ويتم توزيع الربح والخسارة بين الطرفين بنسبة متفق عليها.
العديد من العلماء أجازوا التعامل مع البنوك الإسلامية، بشرط التأكد من التزامها الفعلي بالضوابط الشرعية في كل تفاصيل العقود.
هل يجوز أخذ قرض من البنك لشراء منزل أو سيارة؟ إعادة النظر في الحاجة
أخذ القرض لشراء منزل أو سيارة يتوقف على الضرورة وحاجة الشخص، وكما ذكرنا، هذه غالباً تقع تحت بند "الحاجة" وليس "الضرورة".
- شراء المنزل: إذا كان الشخص لا يمتلك مأوى ولا يجد إيجاراً مناسباً، وتوفرت لديه القدرة على الشراء عبر المرابحة الإسلامية، فهذا هو الخيار الشرعي. أما اللجوء لقرض ربوي لشراء منزل فاخر أو استثماري، فهو مما لا يجوز إلا في حالة الضرورة القصوى المجمع عليها من أهل الفتوى.
- شراء السيارة: السيارة قد تكون حاجة ملحة للعمل أو المعيشة، لكن يفضل دائماً إيجاد خيارات حلال (كالمرابحة) أو تأجيل الشراء أو شراء سيارة مستعملة أقل ثمناً، بدلاً من اللجوء للقرض الربوي.
هل يؤثر التعامل بالربا على الرزق والبركة؟ رؤية الشريعة
نعم، التعامل بالربا يؤثر سلبًا على البركة في الرزق والحياة، وهذا ليس مجرد وعظ، بل حقيقة شرعية واقتصادية:
- المحق والهم: ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الربا يمحق البركة. قد يرى المتعامل بالربا أن ماله يزداد، لكن بركته تختفي، ويشعر بالضيق والهموم وعدم الراحة، وقد يستهلك المال في أمور تضر به.
- تأثير على المجتمع: الربا يسبب تضخمًا وفقراً في المجتمع، حيث يتركز المال في أيدي فئة قليلة، مما يزيد من الفجوة الطبقية ويقضي على مبدأ التكافل الاجتماعي.
الابتعاد عن الربا واختيار الكسب الحلال يضمن للفرد حياة طيبة وراحة نفسية، ويزيد من البركة في المال والأعمال، حتى لو كان الكسب قليلاً.
نصائح لمن وقع في الربا بالفعل: التوبة والبحث عن حلول
إذا دخل الشخص في قرض ربوي وندم على ذلك، عليه بالتوبة الصادقة، وعليه أن يسعى بكل جهده لتقليل الأضرار:
- التوبة والندم: الندم على ما فات والعزم على عدم العودة للربا مرة أخرى.
- محاولة السداد المبكر: البحث عن طريقة لسداد أصل المبلغ فقط إذا كانت شروط البنك تسمح بذلك (بعض البنوك تسمح بخصم جزء من الفوائد عند السداد المبكر).
- تجنب المزيد من الفوائد: الابتعاد عن أي اتفاقات تزيد عليه الفوائد (مثل تجديد القرض أو زيادته)، ومحاولة تسوية الديون أو التفاوض مع الدائنين قبل اللجوء لقروض ربوية جديدة.
في الختام: دعوة لتجنب الربا والحرص على الكسب الحلال
في النهاية، نسأل الله أن يوفق الجميع للابتعاد عن الربا وأن يعيننا على الكسب الحلال. فالحفاظ على المال الحلال هو من أساسيات البركة، وأن المال الحلال يجلب السعادة والأمان الحقيقي. الربا يذهب البركة ويجلب الهموم، ولذلك يجب علينا جميعاً السعي للحصول على البدائل المشروعة دائماً، والحرص على التخطيط المالي والادخار قدر الإمكان لتجنب الاضطرار للاقتراض. عند أي شك أو ضرورة، يجب الرجوع إلى أهل الفتوى الموثوقين، مثل المواقع المخصصة للفتوى لتجنب الوقوع في المحظور. (يمكنك مراجعة موقع إسلام ويب أو غيره من المؤسسات المعتمدة).